الأحد، ٣ فبراير ٢٠١٣

عبد الحافظ متولى‎_نص وقراءة دهشة الخطاب وروح الوطن_


عبد الحافظ متولي

نص وقراءة
دهشة الخطاب وروح الوطن
قراءة فى قصيدة "أول الصرخة آخر الكلام" للشاعرة / وفاء عبد الرزاق
النص
أوَّل الصرخة آخر الكلام
كما للكون معنى
لا يُفسَّرُ إلا به
أفَّسَّرُ بكم
وأُتلى على الذاكرة.
كلما أفرطتُ بذكركم أصابني ثقلُ الجسد
شللُ العائدِ من نعشهِ
الآتي من سفرٍ مغلقٍ
اختلاط ِالأقصى بأثرِ الأدنى،
وكما للذنب ِكفرٌ
كفرتم برئتي
وخنقتم الهواء.
أنا الذي أوقظ الأشجار
التي استرسل جمرُها
قدحَ مطرٍ وصحنَ رطب.
لم ينمْ على يدي عَرَقي
تفجَّر وقوداً قاسمكم شروقاً يصهلُ
يصبُّ على سواعدِكم كبدي
فما بال قِبلتكم تُخطئ
مَن سخَّر لها امتطاءَ الرياح ؟
كم كان للنار أسئلة من لهب
فعلامَ تكسرُ أجنحتهَا طيورُكم
وتختصرُ الفضاء؟
أتراهُ أخطأ عَرقي حين لم ينمْ على يدي؟
كنا نهرين من شجنٍ
جموعاً من حياة
فلأي آلاءِ أبيكما تنكران؟
لم تزرر الأخطاءُ ثوبي
فمن أين يأتي العُري
لتجزئني الرغبات؟
أبوكم المجنزر أنا
على أبوابكم صِفتي
مازلتُ أذكركم كلما الصوتُ اختنق
مازلتم تسيرون إلى شتات الظلام
وبؤس المفترق.
يا مواكب البيع من فرط البيع كدتُ أنسى
أن عاطفة الشموع أصابعي
مصيبتي أنني أمسي وغدي
باسمي لا باسم من يُفقئ نجمي
أستوطن ذاتي، أخلقـُني صفوة المعنى
فأنا لا أجيدُ غير
غيرَ أفقي
لا أجيد غيرَ أن أكون العراق.
القراءة
تبدو القصائد المناسباتية والتي تشتغل على مناسبة معينة مثل حب الوطن مفرطة في بروز الخارج على الداخل, الخارج الذي يهتم بالخطاب الصارخ, فتتحول القصيدة إلى شكل خطابى لا يختلف عن خطبة حماسية تقال لتلهب النفوس , وقليل من هذه القصائد ما يفلت خطابه من النبرة العالية والصوت الحاد, ليتحول إلى نص شعري يجمع بين الخارج والداخل في حكمة فنية ومعادل فني يجمع بين الفضاء الجمالي للنص والفضاء الدلالي الزاعق بطبعه , وهذا الجمع صعب إلا على الشاعر المقتدر القادر على التحكم في زمام خطابه الشعري يوجهه بوعي ليخاطب وعى وعاطفة المتلقى في عمق فني مثل هذا النص "أوَّل الصرخة آخر الكلام" وإذا كنا نطالع هذا النص من بوابته الشعرية العنوان, لأن العنوان علامة مختزلة ومفتقة لدلالة في نفس الوقت ,مستفزة للبنى الخفية في النص, والعنوان هنا يقوم على تركيب نصي يعد مفتاحا منتجا ذا دلالة ليس على مستوى البناء الخارجي للعمل فقط بل يمتد إلى البني العميقة في النص ويتوالد فيها, والعنوان يشكل بنية إشارية دالة تحمل الكثير مما يخفيه النص بل أن العنوان أحيانا يقول ما لا يقوله النص, ولذلك فهذا النص يواجهنا بتركيب نسقى عجيب يقوم على المفارقة " أول الصرخة / آخر الكلام " وهذه البنية النسقية فى تركيبها السيميائى تشير إلى إيقاع نصي يجمع بين أول الصرخة باعتبارها رمزا للجرح والحاجة إلى مستغاث به, ثم تأتى آخر الكلام"لتغلق الدائرة الدلالية وتصبها فى إطار التأكيد التراكمى للمعنى العام وهو الاستغاثة التى يعقبها صمت / موت ومن هنا فإن العنوان اختزل الدلالة الكبرى للنص, وتفتق على أكثر من دلالة تطرح أسئلة مشروعة, من باب: لماذا الصراخ؟ وكيف يكون الصراخ آخر الكلام؟ ومن المستغيث؟ ومن الستغاث به؟ وهنا تتحول القصيدة إلى شعرية الحالة التى تحاول ان ترصد ملامح الداخل والداخل للانا الرمز الذى وضعته الشاعرة مركزا للدائرة الدلالية الكبرى هذه الانا تبدأ مفتوحة على الكل مرتبطة بالجميع فى نسيج واحد يملى على التاريخ ويعبئ الذاكرة
" كما للكون معنى
لا يُفسَّرُ إلا به
أفَّسَّرُ بكم
وأُتلى على الذاكرة."
هذا المعنى الكونى للأنا المبهمة حتى الآن يأتى عبر إيقاع هادئ بشكل يحمل ترميزا كونيا يخلق نوعا مغايرا من الجمال والدهسة ويحمل معنى الأنسجة الإنسانية فى مقارنة عجيبة فإذا كان الكون له معنى يفسر به فألانا المبهمة تفسر " بكم" المبهم أيضا فحتى الآن لا نعرف من " الأنا" المخاطبة "بكسر الطاء" ولا المخطاب" بفتح " الطاء" وإنما ندور فى فلك الإبهام وهذا مقصود من الشاعر لتجعل النص يتحمل مع لا وعى اللغة الجمالى لتخلق نوعا من التشويق والإلحاح فى طلب النص والتعمق فيه لإزالة الإبهام والوقوف على دائرة المعنى المركزى أو الرسالة التى يحملها النص ومن ثم نحن امام
أنا ــــــــــــــــــــ مبهة ’
كم ـــــــــــــــــــــــــ مخاطب ,
نص ــــــــــــــــــــ وسيط / مشوق,
قارئ ـــــــــــــــــــــــــ مندهش
هذه الدائرة تنمو بالخيط الدرامى للنص نموا محسوبا فى إيقاعه ودلالته وتدفع بهذا الخيط إلى النمو عبر قفزات بنائية دقيقة تتقدم به نحو
" كلما أفرطتُ بذكركم أصابني ثقلُ الجسد
شللُ العائدِ من نعشهِ
الآتي من سفرٍ مغلقٍ
اختلاط ِالأقصى بأثرِ الأدنى،
وكما للذنب ِكفرٌ
كفرتم برئتي
وخنقتم الهواء"
هنا يدخل بنا النص فى ببداية خيط الضوء الكاشف وذلك حين ا تضعنا الشاعرة أمام مقولات شعرية جاءت محمولة بالفعل ورد الفعل, متدثرة بالعديد من رتوش الحكمة إلى الحد الذى يمكن أن يجعل منها اصطلاحا ,معتمدة على ثنائيات تجعلنا نفترض أن الشاعرة هنا لم تكن حريصة على تسجيل الواقع بقدر ما هى حريصة على رسم هواجس الخوف التى تعترى انفعالاتها الباطنة فالإفراط فى مقابل ثقل الجسد وشلل العائد فى مقابل الحاجة إلى الدعم والحركة والذنب فى مقابل الكفر والفكر يساوى خنق الهواء, وهذه كلها تشكل هواجس الخوف فهى مقيدة بما يخالج النفس من بواعث التوجس والمراجعة ومنعكسة على توهج أدبية النص وكاشفة عن حالة انفعالية مسكونة ربما بالوطن والصوت الضارخ بين ماهية المتخيل وهو القصيدة وبين ماهية الواقعى وهو الوطن من خلال لحظة مخاض أبدعت الإثنين معا, وهنا تذوب المسافة بين الانفعال الداخلى وبين النص, فيصبحان كشاطئّْ نهر إذا لامس الشعر أحدهما رده إلى الآخر برفق فيحار النص الشعرى على أيهما يرسو الوطن أم القصيدة وهنا تتجلى لحظة الكشف التى تتخذ مسارا أكثر صراخا
" أنا الذي أوقظ الأشجار
التي استرسل جمرُها
قدحَ مطرٍ وصحنَ رطب.
لم ينمْ على يدي عَرَقي
تفجَّر وقوداً قاسمكم شروقاً يصهلُ
يصبُّ على سواعدِكم كبدي
فما بال قِبلتكم تُخطئ
مَن سخَّر لها امتطاءَ الرياح ؟"
تتحول الأنا هنا إلى صوت مهمين صارخ فى الفضاء ليوقظ النوام فى خطاب يقف على حد الحكمة فتتعدد الأنا على جمرة من لهب وحياة كونية فاعلة وحيوية فى مقابل كسل وخمول وهروب وتنتهى إلى قلق السؤال "فما بال قبلتكم تخطئ من سخر لها الريح؟ هنا لحظة إنسانية تؤكد روح الاستغاثة لكنها ليست استغاثة الضعيف وإنما استغاثة القوى المحب الراغب فى التماهى والمؤكدة على روح الوحدة فالأوطان بأبنائها تقوى
" أبوكم المجنزر أنا
على أبوابكم صِفتي
مازلتُ أذكركم كلما الصوتُ اختنق
مازلتم تسيرون إلى شتات الظلام
وبؤس المفترق.
يا مواكب البيع من فرط البيع كدتُ أنسى
أن عاطفة الشموع أصابعي
مصيبتي أنني أمسي وغدي
باسمي لا باسم من يُفقئ نجمي
أستوطن ذاتي، أخلقـُني صفوة المعنى
فأنا لا أجيدُ غير
غيرَ أفقي
لا أجيد غيرَ أن أكون العراق"
هنا يدعم الخطاب الشعرى المعنى الإنسانى المركزى القائم فى النص فأبوكم المجنزر أنا / على أبوابكم ضفتى ويتحول الخطاب إلى خطاب مقدس يستدعى قصة يعقوب ويتناص مع سورة الرحمن لتحول صوت الوطن عند الشاعرة إلى صوت مقدس يحمل جلال الوطن الذى لا يعرف أن يكون شيئا آخر غير العراق فى حالة من سكوب الذاكرة الوطنية على ناصية القصيدة والتى تحتشد لروح القوة الوطنية التى تتأبى على الهوان أو البيع أو الترخص على أيدى من أرادوا ترخص الوطن فيصبح أول الصرخة مفتتح الكلام وجوهرة وخاتمته هنا تبدو الشاعرية متوهجة عبر الإيقاع الجميل الذى يتجلى من خلاله الخطاب الشعرى للنص ليحمل رسالة إنسانية كبرى ويحقق لذة التلقى فى حال انكشاف ماهية الرسالة المسكونة بالوطن.

بقلم/ الناقد الأستاذ عبد الحافظ متولي
...



.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق