الجمعة، ٧ أكتوبر ٢٠١١

رغبة ضائعة ( مشاعر مضطربة نجدي عبدالستار

رغبة ضائعة ( مشاعر مضطربة

كل شيء كان يجذبه  ليبحث عن مصدر العطر الذي يشده  حتى و لو بالتخيل . العطور التي لا يشمها إلا على أوراقه و بين حروفه و مع كلمات الحب التي كتبها لسنوات و لم يدرك منها إلا شذاها  ، و كأنه كتب عليه أن يمارس كل شيء على أوراقه وهو متوسد عباراته و ملتحف قصائده ، و كأنه بقايا من ورق ، ورق ممزق ، و آخر ممزوج بدموع ساخنة سقطت تغسل ألمه و تمحو إثمه و تتطهره  من كل ذنوبه التي غوته على تلك الأوراق  .
هز رأسه  متعجبا من أن يصبح الإنسان ورقة ، و حروفا مكتوبة ، و كلمات مقهورة من آنين الوجع و البعاد ، و من زمن لم يرحمه  ، و لم يترك له مرة واحدة اختيارا ..  تحرك ناحية الباب ناظرا لتلك المارة التي ملأت المكان ضحكا في وسط الليل و لا يشعر به إلا من كان يستقبل النهار و يودع ليل القاهرة بكل عبقه متنفسا نسمات الفجر في لحظة من اللحظات الخالدة التي تعانق الصمت في هدوء و ينسلخ الإنسان فيها كاللحاء من ألمه و تعبه و كأنه على ضيافة حبات من حبات الندى المتساقطة على بقايا حلمه  .
كانت تمر من أمام الباب  متمايلة غير قادرة على الحركة ،  راكنة بيدها على الحائط ، و بضحكاتها التي يسمعها منذ جاء إلى القاهرة في تلك الليلة من كل أسبوع ، و بحروف تائهة بين الشفاه و اللسان ، وبفستان تلون بالبنفسج ففاح عطره و ملأ الحياة جمالا  ، و بصدر عار يثور بعنف ضد القيد الذي وضعته فيه ، محاولا الخروج لهذا العالم ، معلنا عن حريته ، باحثا عن أنامل تلامسه في رقة من أحب ، فالمرأة اللعوب تعرف سر احتياج الرجل للحنان فتظهره في خبث الأنثى ليندفع ناسيا كل شيء ، و باحثا عن ثورة من دفء المشاعر ،  و من حب افتقده مع زحمة الحياة  ، و البحث عن لقمة العيش  .
 فتح الباب و معه غرائزه التي تحركه ناحية هذا العطر الذي يشمه من بعيد ، و تفصله حواجز عديدة ومسافات صنعها أو صنعتها الظروف  ، أو  تلك اللياقة البيضاء التي حبس نفسه فيها فجعلته لا يقترب من فعل إلا و بحساب ، لعلها واحدة منهن اللائي قمن بخدمة الوطن  عندما تسللوا لقلوب تحتاج لحنان ، و بعد انغماسهم في هذا الحب المزيف ذهبن تاركات جراحا لا تمحوها الأيام .. حاول أن يترك كل  هواجس الجاسوسية التي غرزها ذلك الكرش الذي لا ينساه مهما مرت الأيام ليقسو على نفسه مغادرا قليلا من خجله ليسألها: من أين آتت ؟ و أين ستذهب ؟ لم ترد و لم تكن في حالة تسمح بالرد غير أنها أرادت أن تنام و لو قليلا ممدة مع ألمها و خوفها الذي لا يتركها . نظر لها مندهشا لأنه لا يعرف من هو صاحب الحظ الحسن الذي ينعم بهذا العطر الذي دوخه. هذا العطر الذي يأخذه إلى عالم  بحث عنه كثيرا ، و اشتاق له كثيرا  . يضحك و هو يحاول أن يوقف أمنيته و رغبته التي تقوده لأن يرتمي في حضنها.....
رغبة تدفعه و تجعله لا يفكر و كيف يفكر و هو أمام غول من الأنوثة يبتلع كل من يقترب منه  ... هوت عليه ليستقبلها على صدره و هو في حالة خوف و قلق ممن حوله الذين كانوا يعانقون ثبات الليل في هناءة أو تعاسة خلف أبوابهم ، و مع أسرار بيوتهم التي لا يعرفها غيرهم  .
دفعت بابه دون أن يسمح لها و عبرت عتبة البيت و هي تتمايل غير قادرة على الوقوف  ، هذه الحالة جعلته ينظر لها و قد دفعت يده و دخلت متراقصة من شدة التعب ، ثملة غير دارية بالعالم حولها ، منفصلة تماما عن كل شيء ، تبحث عن ذلك المكان  الذي سيضمها في شفقة المحب .
 بنفس الحروف المتلعثمة و الضحكة المرتفعة التي ترج جدران شقته ، ما جعله يسرع في غلق الباب  ، و عائدا إلى الداخل و هو لا يملك قرارا ، فقد نسى عقله على مكتبه بجوار أوراقه و قلمه الذي لا يفارقه أينما ذهب ..
لم يجد إلا عطرا يملأ أرجاء بيته و معه رائحة دخان تفوح فتتشابك مع عطرها ليكون حالة استثنائية تقبل فيها  الحسن و السيء في وقت واحد .
 كان العالم يتراقص أمامها و لا تدرك ما حولها  ، و لم يكن هو في أشد حالات التفاؤل فكل ما كان حوله طوال يومه و مع ذكرياته التي افترسته طوال ساعات طوال تنذر أن أمرا غير مألوف سيحدث ، فلم يحدث أمر جديد في يومه و لا ينتظر أن ينهيه بأمر أخر يعيد نبض الأمل.
بحركتها و أقدامها الملتفة حول بعضها ، و أصواتها الخارجة من أعماقها ، ونظراتها الباحثة عن مكان ترتمي عليه ......وعندما وجدت الأريكة ارتمت و انفصلت عن العالم  تماما  دون حراك ، و كأنها نبتة في أرض ميتة لا يوجد لها أنيس و لا أخت تشكو لها وحدتها .
ضحك و هو يتذكر قطب عندما نسج فلسفته العميقة في توحد النخلتين عندما صرخت لأختها قائلة : (حدثيني لما نشقى ، حدثيني كم سنلقى ، حدثيني كم سنبقى واقفات ) .
سأله نفسه كم ستبقى معه ، و كم سيشقى برؤيتها ، ضحك ثم نظر لها و لتلك الأريكة التي تحمل أسرارا كثيرة مضت و لم تترك إلا جراحا قاسية يوم  جلست بجواره هنا في هذا المكان  ، فكر لو التقيا و تقاربت أناملهما و همست مشاعرهما و غابت عقولهما  ليدرك أن الأمر مختلف و أن الحب لحظة لا تترك ...  لم تترك كلماته تكتمل وقفت و أعلنت بعد تصميم أن تضع نهاية لكل ما مضى و أمام عجلة القادم المخيف الذي يحيطها بكثير من الضجر و السهد و يقض مضاجعها و يزعج هناءة  نومها الجميل  تمنت أن ترحل عن رجل استسلم و رضي بدوره الهزيل . فالمرأة تحتاج رجلا يحيطها و يكنفها كما يكنف الطير صغيره ، هي لا تحب الضعف و الهوان و لا ترضى بالندية ، و لا أن تكون مستأسدة في بيتها فكيف تستطيع المقاومة و الندية وطبعة حبيبها من قبلات على وجنتيها و على شفتيها و فوق الجبين كما قالت ( ماري كورلي ). هي كائن يحب الطاعة و الاستسلام و الأمان حتى في شدة لجاجتها عن حقوقها و المساواة وهو كغيره رضوا و لم يتحركوا كأنهم أصنام من حجارة لا قيمة لها إلا مشاهدة عالم و أحداث لا دخل لها فيها هي فتاة ثائرة تحلم بالثورة و العنف وتكسير كل جدران الخوف و تبحث عن رجل يكون قويا يقوم من أزمته أقوى مما قبل ا يهرب من مكان لمكان يعيش بين هواجسه و على مداد قلمه . عندها رحلت ككل امرأة تركته متمسكا بأواصل فشله  و بقى وحده بين أحلامه الثكلى و أمنياته  الثملى يشرب نخب خيبته التي تزداد يوما بعد يوم   ... حاول أن يستفيق على كلمات تمتم بها و هو وحده لتتوه حروفها بين شفاه تشعر بغصة في الحلق ، أخذ يردد و كأنها أمامه : ككل شيء يدعو إلى الملهاة  ، أدعوك لحفل راقص على نخب أيامنا الضائعة في حب لم يكن في مكانه ، و قصة بلا عنوان  ، و حكاية لا بداية لها و لا نهاية .
أدعوك أن نرقص في حفل وداع الكذب و الخداع ...............هيا أغمضي عينيك ، سيري ببطء ، و دعي أحلامك خلف ظهرك ... هيا نهرب معا مع سراب أمانينا و وجع غيرتنا .... 
أتعرفين كيف يغار الرجل على حب يضيع منه ؟ أتعرفين كيف يشعر بألم الأثرة و حب الذات مع امرأة وهبها قلبه و استسلم لها و كأنه رضي بالعشق يفعل به ما يفعل ؟ دعوته لرحيل بلا ضجيج بلا صوت لموج البحر بلا رفيف لأوراق الشجر أو رذاذ المطر أو نغم حزين يشدو به قلب منكسر للهروب خلف السحب أو خلف النجوم أو في جوف البحار و يجعل حكاية حبه لها لؤلؤا يغار منه المحار ليخبئه من عيون الحاسدين و يصمت أمام زهرة تتساقط أوراقها و تمده  برياحين الحب و لتتحول لثمرة يانعة تهب له كل الحب و تموت في صمت و بلا ضجيج .  
رأسه تهتز بحركة غريبة و هو يصرخ قائلا :  كيف أعددنا مائدة من ذكرياتنا  على طاولة الأيام  ؟ وكيف هان علينا أن نترك الآخرين يتذوقوها و يشربوا نخب فراقنا على جثة هوانا ؟ .............. لم يكن جديرا بنا و لا حريا  أن نفعل ذلك ،  كان علينا أن نقاوم و نقاتل كل ما يقابلنا ، كان علينا أن نفتك بالظن و حكاياته و نتمسك بحبنا و عشقنا .
كل ذلك و هو ينظر و يحاول  أن يجد إجابة لسؤال يتردد في داخله و بصوت مرتفع أخذ يصرخ ماذا سأفعل مع تلك الهابطة من جبال الرغبة و من غريزة الشهوة ؟ لماذا وضعت نفسي في هذا الحوار السخيف مع امرأة عارية من كل شيء ؟  امرأة لا أعرف من هي  ، و لماذا دخلت إلى هنا ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق