الأحد، ٢٧ نوفمبر ٢٠١١

عبد الحافظ متولى الشعر بين اللغة المنطوقة والمشافهة

الشعر بين اللغة المنطوقة والمشافهة

بقلم / عبد الحافظ بخيت متولى
بعد ظهورالدراسات اللغوية والنظريات النقدية الجديدة على يد "دوسوسير وسابير وبلومفيلد وتشومسكى" وغيرهم من علماء اللغة في أوروبا التي تفيد بأن اللغة المنطوقة أو المشافهة تحدد مفهوم الرسالة التبليغية الصادرة من (المرسل/ الشاعر) الى المرسل اليه (المتلقي) وتوصيلها إليه بشكل أفضل من اللغة المكتوبة، حيث إن اللغة المنطوقة لا تعتمد على مجرد التركيب السياقي للكلام فقط وإنما تعتمد وسائل أخرى تجعل هذه السياقات أكثر وضوحا وتأثيرا في المتلقي، منها: طريقة مخارج الحروف، إشارة اليد، وتعبيرات الوجه وغير ذلك مما يمكن أن نسميه الوسائل التعبيرية. بيد أن هذه الدراسات لم تأت بالجديد.. فالعرب قديما فطنوا إلى هذا المعنى واهتموا باللغة المنطوقة اهتماما بالغا حتى قال الشاعر قديما:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
واللغة المنطوقة إحدى وسائل التبيان للشعراء العرب القدماء فقبل عصر التدوين كان إنشاد الشعر هو السمة الغالبة وكان الشاعر عند إنشاده القصيدة يتخذ مواقف معينة وأشكالا مختلفة تعبر عن مدى فطنته لأهمية اللغة المنطوقة ومن هنا فإن إنشاد الشعر يختلف عن كتابته فحين يقرأ المتلقي قصيدة شعرية يشعر أنها مستغلقة "غير مفهومة وغير جيدة" وقد يسمع القصيدة نفسها منشدة فيستحسنها ويصل إلى مضمونها(1).
*الإنشاد في اللغة:
النشيد في اللغة رفع الصوت وهو أيضاً الشعر المتناشد بين القوم وجمعه أناشيد "القاموس المحيط"(2) واستنشده شعراً طلب منه إنشاده فأنشده إياه "لسان العرب"(3) وعند الخوارزمي: النشيد رفع الصوت في نشدان الضالة -بكسر نون نشدان- ثم يستعار لرفع الصوت في الإنشاد. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينصب لحسان بن ثابت منبرا في مسجده ويسمع منه ويقول له " أجب عني، اللهم أيده بروح القدس. كما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه شعر الخنساء.
"الإنشاد موهبة لها شأنها الخطير في امتلاك أزمّة الآذان وجذب أعنّة الأحداق والتسلط على ألباب استمعين في المحافل الحافلة والمقامات المشهودة! وذلك لأن طبيعة الجماهير العربية أن تطرب أسماعهم قبل قلوبهم(4) وفي هذا يقول ابن حيوس في وصف قصائده:
إذا أنشدت كادت لفرط بيانها
تعيها القلوب قبل وعي المسامع

*الشعر يُنشد ولا يُقرأ:
اللغة العربية لغة أناقة وزخرف ومبالغة، والنغم والوزن والتطريب والرنين من عناصرها الرئيسية وصفاتها الأصلية ثم إن فيها من القوافي المتناسبة ما يتعذر وجوده في سائر اللغات، وشعرها المشتق من كيانها يحمل خصائصها وميزاتها فالأصل في الشعر أن يلقى إلقاء أو ينشد إنشادا لأنه غناء أو بسبب من الغناء وكثيرا ما يوصف بأنه سجع الحمامة وتغريد البلبل وصدح العندليب وشدو الهزار ورنين الوتر ووسوسة الحلى، يقول العقاد "كأن في نشأة الشعر العربي من الحداء بعض الشك فليس هناك أقل شك في الصلة الوثيقة بين الحداء والشعر في تطوير تركيبه وتوفيق أوزانه وتقسيم أعاريضه والحداء نفسه مناسبة شعرية تستوحي الغناء في ليالي البادية القمراء بين الحنين إلى الموطن الذي بارحه الركب والأمل في المجتمع الذي ينتقل إليه وليس لترديد الغناء بمعانيه الشعرية مجال أقرب إلى الحياة البدوية وألصق بها من مجال الحداء، فلا نزاع في الصلة الوثيقة بين الحداء ووزن الشعر العربي فإن لم يكن كل ما نظمه العرب حداء يتغنى به الحداة فعلا فهو وزن لا يخالفه ولا ينفصل عنه نغماته وأعاريضه" (5).
وبما أن الشعر غناء كذلك فإن الشاعر مغن أو شبيه بالمغني فقلما نجد شاعراً لا يصف نفسه بأنه مغن أو مطرب أو منشد أو مغرد.
يقول المتنبي:
وما الشعر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمرا
وغنى به من لا يغني مغردا
ويقول مهيار الديلمي:
يخال الراوي إذا قام منشدا
بما ملك الإطراب قام مغردا
ويقول البارودي في وصف شعره:
إذا ما تلاه منشد في مقامة
كفى القوم ترجيع الغناء نشيده
ويقول شوقي:
وهبوني الحمام لذة سجع
ين فضل الحمام في تحنانه
ويقول العقاد:
أنا أدرى يا فتاتي حين ألقى بالأغاني
أن شعري سمعته شفتان شفتان
*عادة الشعراء وطقوسهم في الإنشاد:
للشعراء عادات في إنشادهم عرفوا بها قديما وحديثا فالخنساء كانت تهتز في مشيتها وتنظر في أعطافها، صنعت ذلك حين أنشدت قصيدتها التي تقول فيها:
وإن صخراً لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
وإن صخراً لمولانا وسيدنا
وإن صخراً إذا نشتو لنحار
وكان كعب بن زهير إذا أنشد شعرا قال لنفسه: أحسنت وتجاوزت والله حدّ الإحسان فقال: له أتحلف على شعرك؟ فيقول: نعم! لأني أبصر به منكم. وكان الكميت إذا قال قصيدة صنع لها خطبة في الثناء عليها ويقول عند إنشادها: أي علم بين جنبي؟ وأي لسان بين فكي؟(6). وكان أبو النجم العجلي إذا أنشد أزبد ورمى بثيابه!، ويحكى أن أبا الطيب المتنبي كان يصنع القصيدة وهو يتغنى فإذا توقف بعض التوقف رجع بالإنشاد من أول القصيدة إلى حيث انتهى، وكان بشار بن برد إذا أراد الإنشاد صفق بيديه وبصق عن يمينه وعن شماله! ثم ينشد فيأتى بالعجب.
وكان البحتري رديء الإنشاد قبيح الحركات وكان إذا أنشد يختال ويعجب بما يأتي به وكان من عاداته إذا فرغ من القصيدة أن يعيد البيت الأول وقد يعيد بيتين من أول القصيدة وكان يقف عند كل بيت ويقول: أحسنت والله، ثم يقبل على السامعين فيقول: ما لكم لا تقولون أحسنت؟! هذا والله مما لا يحسن أحد أن يقول مثله.
*بين الإنشاء والإنشاد:
ليس كل من ينشئ الشعر يحسن إنشاده! ولله در عبدالله بن معاوية حيث يقول:
يزين الشعر أفواها إذا نطقت
بالشعر يوما وقد يزري بأفواه(7)
فبعض الشعراء يحسنون الإنشاد كما يحسنون الإنشاء فيزيد شعرهم حسنا وجودة ويكتسي ملاحة وحلاوة وتتضاعف منزلته حين ينشد، يقول البارودي:
يزيد على الإنشاد حسنا كأنني
نفست به سحرا وليس به سحر
وبعضهم يقبح إنشاؤه وإنشاده فيكون حقيقا بقول أي خليفة يهجو شاعرا:
كأن الشعر من فيه
إذا نمت قوافيه
كنيف قد خ... فيه!
وبعضهم يجيء شعره وسطا ولكن يجود إنشاده فيرتفع شعره إلى الذروة في نفوس مستمعيه ويفوق غيره ممن هم أقوى منه مبنى وأجمل معنى وألطف خيالا ويظفر من التصفيق والاستحسان بنصيب الأسد!
*الشعراء المجيدون للإنشاد:
أول شاعر عرف بحسن الإنشاد وذاعت له شهرة هو أعشى قيس وقد سمى صناجة العرب لأنه كان يتغنى بشعره وقد كانت العرب تقول لمن يحسن إنشاد الشعر -صناجة العرب- وفي عصر لاحق برع في الإنشاد "وضاح اليمن" وكان من أجمل الناس وجها وأظرفهم وأخفهم شعرا وهو القائل في حسن شعره وحسن إنشاده:
عجب الناس وقالوا
شعر وضاح اليماني
إنما شعري قند
قد خلط بحلجلان
كما برع في العصر الأموي أيضا في الإنشاد "عباد العنبري -وأبو النجم العجلى-" وفي العصر العباسي عرف أبو نواس حيث قيل للجاحظ: من أنشد الناس ومن أشعرهم؟ فقال: الذي يقول:
كأن ثيابه أطلعن
من أزراره قمرا
يزيدك وجه حسنا
إذا ما زدته نظرا
بعيني خالط التفتير
من أجفانها الحورا
*شعراء لا ينشدون:
لم يخل عصر ما من شعراء نابهين مجودين في إنشاء الشعر ولكنهم قعدوا عن إنشاد شعرهم لسبب من الأسباب كآفة لسانية أو كبر السن أو الحياء أو الكبرياء أو غير ذلك (8)، ومن هؤلاء "أبو عطاء السندى" أحد مخضرمى الدولتين الأموية والعباسية وكان في لسانه عجمة شديدة ولعثمة جللتاه فلا يكاد يبين! "والكميت بن زيد الأسدي" فقد- كان ضعيف السمع ولم يكن حسن الصوت ولا جيد الإنشاد.
ومن الأندلس "عاصم بن زيد العبادي الأندلسي" عرف بخبث اللسان وكثرة الهجاء، أما أبو تمام فقد كانت فيه حبسة شديدة وتمتمة، دخل أبو سعيد المخزومى إلى إسحاق بن إبراهيم فأنشده قصيدة أبدع في إلقائها! ثم دخل إليه أبو تمام فأنشده -على رداءة إنشاده- فقال إسحاق: يا أبا تمام: لو رأيت المخزومي وقد أنشدنا آنفا؟ فقال أبو تمام: أيها الأمير، نشيد المخزومى يطرق -أي يجعل له يريقا ويمهد لقبوله- بين يدي شعره! وشعري يطرق بين يدي نشيدي!، أما الشريف الرضي حيي الوجه فكان لا ينشد في المواقف المهيبة حياء.
وفي العصر الحديث كان أمير الشعراء -أحمد شوقي- لا يلقي شعره ولا شعر غيره فكان ينوب عنه في إنشاد شعره بعض ممن يحسن الإنشاد كالشاعر "كامل الشناوي" و"الأستاذ كامل زيتون" و "الشاعر علي الجارم" وقد عرض حافظ إبراهيم في قصيدته التي كرم بها شوقي في حفل مبايعته بإمارة الشعر فنفى عنه العي والترفع ولكنه لم يذكر لنا السر في عدم إلقاء الشعر بنفسه، يقول حافظ:
يعيبون "شوقي" أن يرى غير منشد
وما ذاك من عي ولا من ترفع
كذلك خليل مطران الذي يقول عنه العقاد: كان يروي شعره ولا ينشده إلا قليلا. ولعل هذا القليل الذي يعنيه العقاد هو ما كان يلقيه في بعض المناسبات كحفلات التكريم والرثاء(9)، أما العقاد فكان ينشد شعره بنفسه في مناسبات قليلة جدا لأنه لم يكن شاعر مناسبات وكان إنشاده مهيبا جليلا وقورا مستمدا من شخصيته الضخمة ولكنه كان ذا صوت أجش مبهم خال من الطنطنة والرنين!.
المراجع

(1) أ- عبدالحافظ بخيت متولي: الشعر العربي بين الكتابة والإنشاد، مجلة الكويت، العدد 200 ص70
(2) الفيروزاباذى: القاموس المحيط ط دار الشعب ص 563 .
(3) ابن منظور: لسان العرب، ط دار المعارف ج3 ص 411 .
(4) أبو العلاء المعري: سقط الزند ط الدار القومية ص 140 .
(5) عباس محمود العقاد: الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين، الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 99، 100 .
(6) علي الجندي: الشعراء وإنشاد الشعر، دار المعارف بمصر ص 44 .
(7) علي الجندي، المصدر السابق ص 56 .
(8) علي الجندي، المصدر السابق ص 73 .
(9) علي الجندي، المصدر السابق ص 78 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق