الاثنين، ١٩ سبتمبر ٢٠١١

تذكرت جديلة امي__ محمود العرب / ابو براء _ سندباد المجرة الكونية

تذكرت جديلة امي

في ذاكرة الزمن و أنا جالس قرب المدفئة في يوم شتاء قارص ارقب زخات المطر المنسدل على الشباك كأنه يبكي شعرت انه يريد أن يبكيني فقلت له اهدأ فعيوني ليست مشتاقة للدموع أغمضت عيناي لا ادري ماذا حدث لي أخذت عيناي تذرف دمعاً حارقا كأنه من ثنايا الشمس دافق لم اعلم لحظتها لماذا ، و أخذت اقلب في مخيلتي عن أسباب تبكيني فلم أجد شيء في مخيلتي يهنئني ، و في تلك اللحظات قطعت علي خلوتي ابنتي فاطمة و هي تسألني أبي أين بكلة شعري الحمراء و هي ممسكة جديلة شعرها عندها ....
تذكرت جديلة أمي

كانت في ما مضى في يوم تمشط شعرها و تعمل جديلتها السوداء الجميلة قبل ان يشتعل في ثناياها الشيب من وقع الزمان الثقيل و كنت أتغزل بها و أتحسس جديلتها الناعمة المخملية قالت لي يا محمود ذكرتني يوم ما كنت في يالو و هي قريتنا المدمرة كنت قبل الاحتلال أن يدمرها و نهاجر قصرا منها كنت صبية صغيرة العب مع رفيقاتي من البنات وكُنَّ دائما يسألنني عن شعري الأسود الطويل الجميل فكنت اخجل منهن و اختبئ كالعصفورة بين الأغصان و نلهوا بين الأشجار و نصنع من الأزهار عقودا فنزيدها جمالا إلى جمالها وهي معلقة في أعناقنا كالوطن معلق بكل عنق حر جميل أيها الوطن يا جدائل الحرية السوداء طويلة هي لياليك كطول جديلة أمي برغم سوادها إلا أنها لامعة برَّاقة كلمعان شعر أمي عندما تملسه بزيت الزيتون من شجر الوطن عندما كانت خالتي ترسله لنا من هناك من يالو قريتي المدمرة الخالية من كل شيء الا من ظل جديلة أمي .

و تذكرت كيف عانت أمي في تربيتي أنا و إخوتي كنا أربعة عشر عددنا من بنين و بنات كأنها قبة كالسماء تظلنا تحتها و تحنو علينا وتنير دربنا كالقمر في أحلك الأمسيات ،
أربعة عشر غصنا تفرعنا من شجرة مباركة زيتونة يكاد زيتها يضيء و لو لم تمسسه نار .
و تذكرت كيف كانت تخيط ثوبها البلدي الفلسطيني بيدها الماهرة ترسم أجمل النقوش كأنها معلمة و فنانة و من أعلى المعاهد و الجامعات تخرجت بجدارة و هي تخيط بالإبرة و تضع في أصبعها التستبان لتحمي أصبعها من وخز الإبرة الطنانة و هي بفعلها تخيط و تنسج من أشعة الشمس الذهبية مستقبلنا المجهول و تحاول أن تزينه و تتقنه كما تفعل بالثوب، اااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااه يا أمي كم أنا محتاج إليكِ
ابكي على صدركِ الدافئ الحنون و اشتاق إلى رغيف الخبز الذي كنتِ تخبزيه بيديكِ و هو يشبه في تعرجاته تضاريس وطني و اشتاق إلى المفتول الذي كنتي تصنعينه و تهدي إلى الجارات أم عصام و أم محمود و أم أكرم و أم أنور و أم امجد و أم علي و الحجة جميلة ...
صحن منه لأنكي انتي وحدكِ تجيدينه و أنتي كريمة النفس أمينة
و لا أنسى أم الوليد التي تآخت مع أمي أخوة ما بعدها أخوة في الله و لله ، خالتي أم الوليد احبكي حب أمي فهذا هو الحب الحقيقي ، و أمي الثانية أم وائل التي أرضعتني صغيراً عندما كانت أمي مريضة فصارت هي أمي في الرضاعة و هي من الجهة الشرقية فتعانقت الجهتان الشرقية و الغربية لكِ مني كل حب و تقدير من ابن لأمه .

و تخيلوا معي كم كانت معاناتها مع أربعة عشر شخصا من تنظيف و تلبيس و جلي و أكل
و شطف و اخذ المريض للدكتور و السهر على الذي أصابته حمى لعينة وووووووووو........
و بعد زمن أخذت تتعب ولم تعد قادرة على معاركة الحياة اللئيمة و أخذت الإمراض تهطل عليها كالبرد الخارق يخترق جسدها الطاهر بكل قوته فلم تعد قادرة على المقاومة فقد تعب جسدها من مُرِ الأيام و حزنها الهائل.
سكري و ضغط و قلب متسارع و غدد و مفاصل و رئتان لم تعودا تطيقان هواء الغربة المُر و المرض القاتل

الذي بسببه فارقت روحها جسدها الطهور هو الفشل الكلوي عليه من الله ما يستحق .... ...
و لم تعد كلاها تقوى على فلترة دمها الحنون و أصبحت تغسل دمها مرتين في الأسبوع و تقعد على جهاز فلترة الدم أكثر من ستة ساعات و كنت انظر إليها و ابتسم و تنظر إليَّ و تبتسم رغم الألم رغم الوجع اللعين في القلب الدفين الذي تجرع الألم و الحزن على مدى السنين ، و اخفي في عيني دمع الحنين و حب الزهرة إلى ندى الصباح الأصيل ، الزهرة التي أفنت حياتها و تساقطت ورقاتها ورقة تلو الأخرى في تربية أبنائها .

و كانت تحتاج في كل مرة من الفلترة إلى وحدة دم و تبرع إخواني و إنا معهم و كل مؤمن حليم .
و في مرة كنت في العمل مشغول فإتصل أخي و قال أمي تريد أن تذهب للمستشفى و تحتاج إلى دم قلت سألاقيكم في المستشفى و سأحضر صديق لي إن شاء الله و أخذت اتصل هنا و هناك و لكن لم استطع أن أوفر وحدة الدم و ذهبت إلى المستشفى و عندما وصلت قال لي الممرض المسئول أين تارك الحجة يا مجنون قلت له هي الظروف قال هي تحتاج إلى دم قلت أنا جاهز قال و هل سبق إن تبرعت قلت نعم قال متى فصمت برهة و أنا أفكر بكلام أمي لا تكذب يا محمود فقال لي الممرض هل أنت خائف من الإبرة ؟؟ أجبته و أي إبرة الأمر ألمه اشد من وخزة الإبرة قلت له منذ سنة تقريباً فكذبت لأني سحبت منذ 15 يوم و قال لي يبدو أن دمك جيد لن آخذ عينة للفحص تعال للسحب مباشرة فقلت هذا أفضل لان أمي تنتظر على آلة الفلترة بسرعة أرجوك ، و حملت وحدة الدم و هرعت إلى أمي الحبيبة فدمي نفسه دم أمي لأنها منحتني دمها عندما عملوا لي عملية و أنا في سن صغيرة و وصلت إلى وطني إلى أمي فقبلت جبينها و قلت لها كيف أنت يا حياتي قالت بصوت مبحوح الحمد لله ، لماذا أنت هنا أليس لديك عمل قلت لها اشتقت لكِ يا حبيبتي ،
قالت مَنْ تبرع بالدم هذه المرّة قلت لها واحد بعشق ترابك موله بتعاريج جبينك يا غالية التي تشبه تعاريج وطني قالت أنت يا محمود قلت نعم أنا قالت مش تبرعت قبل كم يوم قلت عادي دمي قوي و ثائر هادر من اجلكِ أنتي يا وطني يا أمي فدمكِ يسري في جسدي ، أنتي كنتِ السباقة فسكبتي دمكِ في اقنية شراييني منذ 24 سنة قالت يااااه أمتذكر أنت قلت كيف أنسى لن أنسى لو بعد 24 قرن فحبكي ليس بيدي هو محفور في القلب كما هو الوطن ، و بعد فترة وجيزة قررنا عمل عملية لها وزراعة كلى و لكن هل ينفع أن يستبدل جزء حقيقي من الوطن بجزء آخر غريب ، فذهبت أمي و أخي الأكبر و أبي إلى عاصمة الرشيد نلتمس الدواء الشافي لجسد الوطن الغالي ، فتمت العملية على أيدي امهر المختصين و الجراحين و توهمنا أن أمنا ستعود إلى سابق عهدها المرموق و بعد فترة قصيرة غابت شمس الحرية و انطفأت كل القناديل المضيئة و انحنت كل الرؤوس العالية و ذرفت العيون الدموع الحزينة على فراق الوطن الغالي و تذكرت ما كانت تقوله لي أمي عن يالو القرية الفلسطينية المدمرة عندما غادر أهلها ولم يعودوا لها ،
هذا ما حدث عندما قطعت علي خلوتي إبنتي فاطمة تسألني عن بكلتها الحمراء ممسكة جديلتها
عندها تذكرت جديلة أمي .
--------------------------------------------
محمود العرب / ابو براء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق